أشهر عمليات النصب في التاريخ
إذا ما كنتَ تجلسُ مع شخص للمرةِ الأولى؛ أو بالأصح هو من وجد الطريقة والأسلوب المناسبين للجلوس والتودد إليك من خلال موضوع معين، وهو في هذا الموضوع يتمتع بطلاقة لسان قوية فلا يترك لك أي مجال للمداخلة، وأيضاً رأيته بدأ يقنعك بحاجة محددة وعن كونه الوحيد القادر على تحقيقها لك دون أي داع للشك أو التردد لأنه سبق وأن لبى هذه الحاجة لأناس كثر وهم الآن ينعمون بسعادة أبدية وسط بحر واسع من الأموال الطائلة، كل ذلك يتحدث به وهو يحرّك عينيه في كل الاتجاهات ويراقبُ كل حركة حوله، إذا اجتمع كل ذلك في شخص واحد ولحظة واحدة فأنت عزيزي القارئ على مشارف الوقوع ضحية عملية نصبٍ كبيرة، لذلك لا تستمع إليه و….اهرب.
سنتعرف في هذا المقال على أشهرِ عمليات النصب في التاريخ، ولقد دخلتِ التاريخَ لأن ضحاياها ببساطة لم يمتلكوا الوعي الكافي الذي يقول لهم: اهربوا
1- عملية النصب التي باع صاحبُها برج إيفل مرتين:
النصاب المحترفُ يجد في أية ثغرة منفذاً للوصول إلى هدفه، وهذا تحديداً ما مثّلَ طرفَ الخيط لدى “فيكتور لوستيج” الذي استغلّ عجز الحكومةِ الفرنسية عن إعادة ترميمِ برج إيفل الذي أضحى مشوهاً بعد الحرب العالمية الأولى.
هذا المقال عن برج إيفل الذي وقعت عينُ فيكتور الخبيرة عليه في يوم عادي من عام 1925 كان يُطالع فيه الجرائد لن يكون مجرد مقال عابر وإنما بداية لواحدة من أشهر عمليات النصب في التاريخ.
قرر لوستيج أن يستغلَّ التشويه الحاصلَ لبرج إيفل بسبب الدمار الذي طاله بعد الحرب العالمية الأولى، ولم يدخر وقتاً أو جهداً إذ إنه سرعان ما اجتمع في أحد الفنادق مع ستة من رجال الأعمال، وقدَّم لهم نفسه على أنه متحدث رسميّ باسم الحكومة الفرنسية مستخدماً بطاقة مزورةً، ولم يكتفِ بذلك بل قدم لهم أيضاً أوراقاً مزورة تثبتُ أنه نائبُ المدير العام لوزارةِ البريد والتلغراف كي يزيد اطمئنانهم واقتناعهم بأن الحكومةَ الفرنسيةَ غير قادرة على تحمل تكاليف ترميم البرجِ لذلك قررت هدمه وبيعه خردةً.
ظل لوستيج يؤكدُ على سرية عمليّة البيع وهو يراقبُ ردود أفعال ضحاياه من رجال الأعمال الستة إلى أن وقع اختيار فيكتور على “أندريه بوسيون” بعد أن رأى فيه الحماس المطلوب لإتمام عملية النصب، وبالفعل حصل من ضحيته على ثمن البرج إضافة إلى عمولة ورشوة أيضاً وذلك لدفع شكوك زوجة الضحية، ثم هرب إلى فيينا مع حقيبة مليئة بالنقود، وبعد أن اكتشف أندريه أنه تعرض لأكبر عملية نصب في حياته آثر الصمت خوفاً من أن يبدو كالأحمق، ولهذا السبب تمكن لوستيج من العودةِ إلى باريس بعد فترة وجيزة ليبيع برج إيفل مرة أخرى بنفس الطريقة، لكن رجل الأعمال هذه المرة أخبر الشرطة، فاضطر لوستيج للهروب إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
في عام 1934 ألقى العملاء الفيدراليون القبض على لوستيج بتهمة التزييف، وقبل يوم من المحاكمة تمكن من الهرب من البيت الفيدرالي، ولكن أُعيد اعتقاله وحُكم عليه بالسجن لعشرين سنة في الكارتاز، وفي عام 1947 تقلصت رئته ومات بعد يومين في المركز الصحي الفيدرالي للسجناءِ في ميسوري.
:CATCH ME IF YOU CAN-2
من منا لم يشاهد هذا الفيلم من بطولة ليوناردو ديكابريو، وهو مقتبس عن قصة واحد من أشهر النصابين وأكثرهم براعة وإبداعاً على الإطلاق:
“فرانك أباغنيل” المزور الأمريكي الذي حيّر أجهزةَ الأمن وجهات التحقيق الأمريكية، بل هو أشهر مزور استطاع أن يسافر إلى 26 بلداً قبل بلوغ سن التاسعة عشرة، وذلك من خلال استخدام شيكات مزورة للسفر على حسابِ شركة “بان أميريكانز أرويز” الأميركية التي أقنعها بأنه طيار وأنه يعملُ تحت نظام الديدهيدينغ (المقصود بهذا المصطلح أن الطيار يسافرُ بوصفه راكباً لإحضار طائرة من مطار آخر)؛ أي إنه كان يسافر مجاناً ويأكل وينام في أفخرِ الفنادق وكل ذلك على حساب شركة الطيران.
وعمل أباغنيل أيضاً لمدة عام كامل في مستشفى في جورجيا طبيباً للأطفال تحت اسم مستعار، وذلك من أجل الهروب من مطاردات الشرطة، وبالفعل نجح في إقناع صديقه الطبيب الذي يشاركه الشقةَ أنه طبيب، فعرضَ عليه صديقه أن يكون مشرفاً على المتدربين في المستشفى لفترة مؤقتة ريثما يتم إيجاد شخص آخر، وبالفعل تولّى أباغنيل هذا المنصبَ دون أن يضطر إلى إجراء أي عمل طبي.
ليس هذا فحسب، إذ زور أباغنيل شهادةَ ديبلوم من جامعةِ هارفارد، وتقدم لامتحان الأهلية ليحصل على وظيفة المدعي العام لولاية لويزيانا عندما كان عمره 19 عاماً فقط.
حُكم على أباغنيل بالسجن لمدة 12 عاماً وذلك بعد نجاحه بالهروب مرتين، لكنه أمضى من فترة الحكم 7سنوات فقط إذ إن مؤسسة الإصلاح الفيدرالية أطلقت سراحه بشرط أن يعملَ معها دون أجر في التحقيق في جرائم الاحتيال، لكن ما فعله سيظلّ من أشهر عمليات النصبِ في التاريخ.
3-النصاب الذي باع دولةً ليس لها وجود:
دعونا نتوغل في التاريخ قليلاً تحديداً إلى بداية القرن التاسع عشر، لنتعرف إلى أوقح عملية نصب في التاريخ:
إنه الجنرال الإسكتلندي غريغور ماكغريغور الذي قام بفعلِ العجائب لإقناع المستثمرين والمستوطنين بوجود دولة بأكملها تحتاج مواردها إليهم، وبالفعل نجح في عام 1822 في استقطاب أول 250 راكباً على ظهر سفينتين حطتا على أرضه الأسطورية التي تشبه الجنة.
تفنن ماكغريغور في أساليب الإقناع لإتمام عملية نصبه: أولها نشره لإعلان مدهش يقول فيه إنه أمير أرض “بويايز” على طول النهر الأسود في هندوراس في أميركا الوسطى، وصوّرَ المنطقة بكونها منطقة خصبة تتمتعُ بالمياه الوفيرة، وكتل الذهب، والغابات، والطرائد، ورسمَ الحياة فيها على أنها أشبه بالحياة في جنات عدن وذلك على عكس إسكتلندا المظلمة الماطرة، ورسم الخرائط لها أيضاً، ولم يكتفِ بذلكَ بل قام بإصدار كتاب تحت اسم مستعار يتحدث فيه عن بويايز وطبيعتها الخلّابة، ومواردها، وثرواتها، وسكّ العملة الخاصة بهذه الدولة.
استطاع ماكغريغور أن يستغلّ رغبة الإسكتلنديين في أن تكون لديهم مستعمرات مثل الإنكليز، فأوهمَهم بأن الهجرة إلى بويايز والاستيطان فيها يمثلان عملاً وطنياً مشرّفاً، إضافة إلى لعبه على وتر المصالح الشخصية بمعنى أن من سيأتي إلى هذه الأرض سوف يحقق أرباحاً هائلة إلى جانب كونه مواطناً صالحاً يحقق حلم من سبقوه في أن تكون لديهم مستعمرات أسكتلندية.
بعد أن حطّ المسافرون على “جنة بوياييز” اكتشفوا “الجحيم” الذي وصلوا إليه لأنها لم تكن إلا أرضاً قاحلة في الهندوراس حيث عاشوا فيها لشهرين ثم مات ثلثاهم بسبب سوءِ وضعهم النفسي والمعيشي، في حين تمكنت البحرية البريطانية من إنقاذ الثلث الباقي بالصدفة.
4-هرم بونزي (تأثر وتأثير):
وهو هرم يركزُ على استغلال إدمان الناس للكسب السريع والمربح من أجل غسلِ عقولهم واستدراجهم للوقوع بفخ واحدةٍ من أشهرِ عمليات النصب في التاريخ؛ وهي ما يُعرف بـ(سلسلة أو هرم بونزي).
هذه السلسلة هي عبارة عن عملية نصبٍ متدرجة قام بها تشارلز بونزي عام 1920 من خلال استثمارات عقارية في كاليفورنيا تتم بإنشاء نظام بيع هرمي يتمثلُ بوعودٍ ربحية كبيرةٍ ناتجة عن استثماراتٍ معينة، وهذا الربحُ يموله تدفق رأس المال إلى أن تنفجر كرة الثلج هذه وهو موعدُ الضربة النهائية لعمليّة الاحتيال إذ يهرب النصاب بكل الأموال -طبعاً بعد أن يصل إلى الرقم الذي يريده- ولا يدفع لأي أحد.
هرمُ بونزي هذا، أو سلسلة بونزي، أو لعبة بونزي: تعددت الأسماءُ وعمليّة النصب نفسها تتكرر عبر التاريخ في رحلة مرعبةٍ من التأثر والتأثير، لكن اسم بونزي جاء نسبةً إلى المهاجر الإيطالي شارلز بونزي، الذي بدأ سنة 1920 بإعطاء نسبة 50% فائدة كل 45 يوماً، أو 100% فائدة كل 90 يوماً إلى أن جمع ما يقاربُ 20 مليون دولار في عام واحد.
وكان بونزي قد استلهمَ فكرته من ويليام ميلر الذي قامَ بنفس السلسلة، وجمع مليون دولار، إضافة إلى تشارلز ويلس المقامر الذي قام بإنشاء بنك في باريس عام 1910 واعداً المودعين بنسبة فائدة 365% عن كل سنة، أي ما يعادل 1% عن كل يوم، وبسبب فعلته هذه قامت الحكومةُ الفرنسية بوضع قيود على البنوك.
أما المتأثرون بهذه السلسلة فأشهرهم “مستريح المنيا” الذي أضاف لمسته الاحتيالية الخاصة حين استعان برجال دين مزيفين لتحريم فوائد البنوك وجذب المواطنين إلى شركته بأرباح مغرية، وذلك بعد توجيههم للأهالي خطاباً يشرح عن كون فوائد البنوك محرمة دينياً لكن “تسعة أعشار الرزق” في التجارة.
قام المستريح الشهير بـ:”مستر حسين” بالنصبِ على أهالي قرى مركز مغاغة وعدد من المراكز المجاورة في محافظة المنيا في صعيد مصر، إذ إنه جمع ما يزيد على المليار ونصف المليار جنيه مصري (95 مليون دولار أمريكي) بحجة استثمارها في التجارة وتصدير الرخام إلى الصين، بأرباح شهرية تصل إلى 25% لكنه سرعان ما تعثر في سدادِ تلك الأرباح، ما جعل الرأي العام المصري يطلقُ عليه “مستريح مغاغة”، أو “مستريح المنيا”.
ولقد نجح المستريح بالفعل في تكوين شبكةٍ كبيرة من المندوبين الذين كانوا يوظفونَ أسماء أشخاص لهم سمعة طيبة ويحظون بالثقة لدى الأهالي البسيطين الذين وقعوا -لبساطتهم- في فخ شباك هؤلاء المندوبين، ولكن بعد عجزِ المستريح عن سدادِ الأرباح وهروبه من المتضررين الذين ضيقوا الخناقَ عليه، تم إلقاء القبض عليه في أحد المنازل في مركز العدوة، إلا أنه مع ذلك شكلَ لجنة عُرفية من عمُد القرى، ووعد كافة الضحايا بتقسيطِ المستحقات التي دفعوها، مؤكداً إلى أنه هو الآخر ضحية لسوق التجارة والتصدير خلال جائحة كورونا التي تسببت في تعطل حركةِ تصدير الرخام إلى الخارج بسبب سياسة الإغلاق الكامل في أغلب دول العالم، ولكن عبر التحري والتحقيقات تبيّن أن شركته لم تعمل في التصدير من قبل.
إن عدد عمليات النصب من عدد النصابين لذلك لا يمكنُ حصرها، لكن يمكن أن نؤكد لك أن أغلب أساليب النصب والاحتيالِ تعتمد على تقنيتي “الألفا” و “الأوميغا”:
وهما نوعان من أنواع أساليب الإقناع: الأول (ألفا) يتعلق بزيادة جاذبية شيء ما، أما الثاني (أوميغا) فيتعلق بتخفيضِ المقاومة المحيطة بشيء ما؛ بمعنى أن المحتال في الأسلوب الأول يركز على مدى روعة هذه الفرصة في تحقيق الربح، وكم ستكون شخصاً مثالياً إن وافقتَ على ما يقول، أما الأسلوب الثاني فيركز على تقليل الأسباب التي قد تمنعكَ من الاستجابة للنصاب كأنك تقول: لمَ لا أفعل هذا؟ وما الذي سأخسره؟.
وقد أطلق عالما النفس الاجتماعي: “إريك نولز”، و“جي لين” على هذين الأسلوبين المتجاورين والمتباينين للإقناع اسم “نموذج الاقتراب والتجنب”؛ أي إن الإقناع بشيء ما يكون عن طريق الدفعِ إلى الاقتراب منه، وتقليلِ الأسباب التي قد تؤدي إلى تجنبه.
حسناً…إن المثاليةَ في الأسلوب الأول تدعو إلى الشك، والوقاية في الأسلوب الثاني حقيقيّة والدعوة إلى تحطيمها وهمٌ، لذلك عزيزي القارئ حاذر ثم حاذر ثم حاذر قبل أن تصبح واحداً من ضحايا أشهر عمليات النصب في التاريخ.